الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***
{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} قوله تعالى: {فاليوم لا يؤخذ} استمرار في مخاطبة المنافقين. قاله قتادة وغيره: وروي في معنى قوله: {ولا من الذين كفروا} حديث، وهو أن الله تعالى يقرر الكافرين فيقول له: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟ فيقول: نعم يا رب، فيقول الله تعالى: قد سألتك ما هو أيسر من هذا وأنت في صلب أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك. وقرأ جمهور القراء والناس: «يؤخذ» بالياء من تحت. وقرأ أبو جعفر القارئ: «تؤخذ» بالتاء من فوق، وهي قراءة ابن عامر في رواية هشام عنه، وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وقوله: {هي مولاكم} قال المفسرون معناه: هي أولى بكم، وهذا تفسير بالمعنى، وإنما هي استعارة، لأنها من حيث تضمنهم وتباشرهم هي تواليهم وتكون لهم مكان المولى، وهذا نحو قول الشاعر [عمرو بن معد يكرب]: [الوافر] تحية بينهم ضرب وجميع *** وقوله تعالى: {ألم يأن} الآية ابتداء معنى مستأنف، وروي أنه كثر المزاح والضحك في بعض تلك المدة في قوم من شبان المسلمين فنزلت هذه الآية. وقال ابن مسعود: مل الصحابة ملة فنزلت الآية. ومعنى: {ألم يأن} ألم يحن، ويقال: أنى الشيء يأني، إذا حان ومنه قول الشاعر: [الوافر] تمخضت المنون له بيوم *** أنى ولكل حاملة تمام وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «ألما يأن». وروي عنه أنه قرأ «ألم يين». وهذه الآية على معنى الحض والتقريع، قال ابن عباس: عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وسمع الفضل بن موسى قارئاً يقرأ هذه الآية، والفضل يحاول معصية، فكانت الآية سبب توبته. وحكى الثعلبي عن ابن المبارك أنه في صباه حرك العود ليضربه، فإذا به قد نطق بهذه الآية، فتاب ابن المبارك وكسر العود وجاء التوفيق. والخشوع: الإخبات والتطامن، وهي هيئة تظهر في الجوارح متى كانت في القلب، فلذلك خص تعالى القلب بالذكر. وروى شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أول ما يرفع من الناس الخشوع». وقوله تعالى: {لذكر الله} أي لأجل ذكر الله ووحيه الذي بين أظهرهم، ويحتمل أن يكون المعنى: لأجل تذكير الله إياهم وأوامره فيهم. وقرأ عاصم في رواية حفص ونافع: «وما نزَل» مخفف الزاي. وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: «نزّل» بشد الزاي على معنى: نزّل الله من الحق. وقرأ أبو عمرو في رواية عباس وهي قراءة الجحدري وابن القعقاع: «نزِّل» بكسر الزاي وشدها. وقرأ نافع وأبو عمرو والأعرج وأبو جعفر: «ولا يكونوا» بالياء على ذكر الغيب. وقرأ حمزة فيما روى عنه سليم: ولا تكونوا «بالتاء على مخاطبة الحضور. والإشارة في قوله: {أوتوا الكتاب} إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام، وذلك قال: {من قبل} وإنما شبه أهل عصر نبي بأهل عصر نبي. و: {الأمد} قيل معناه: أمد انتظار الفتح، وقيل أمد انتظار القيامة وقيل أمد الحياة. و: {قست} معناه: صلبت وقل خيرها وانفعالها للطاعات وسكنت إلى معاصي الله، ففعلوا من العصيان والمخالفة ما هو مأثور عنهم. وقوله تعالى: {اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها} الآية مخاطبة لهؤلاء المؤمنين الذين ندبوا إلى الخشوع، وهذا ضرب مثل واستدعاء إلى الخير، رقيق وتقريب بليغ، أي لا يبعد عنكم أيها التاركون للخشوع رجوعكم إليه وتلبسكم به،» فإن الله يحيي الأرض بعد موتها «، فكذلك يفعل بالقلوب، يردها إلى الخشوع بعد بعدها عنه، وترجع هي إليه إذا وقعت الإنابة والتكسب من العبد بعد نفورها منه كما تحيى الأرض بعد أن كانت ميتة غبراء. وباقي الآية بين جداً.
{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)} قرأ جمهور القراء: «إن المصَّدقين» بشد الصاد المفتوحة على معنى المتصدقين، وفي مصحف أبيّ بن كعب: «إن المتصدقين»، فهذا يؤيد هذه القراءة، وأيضاً فيجيء قوله تعالى: {وأقرضوا الله قرضاً حسناً} ملائماً في الكلام للصدقة. وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم «إن المصَدقين» بتخفيف الصاد على معنى: إن الذين صدقوا رسول الله فيما بلغ عن الله وآمنوا به، ويؤيد هذه القراءة أنها أكثر تناولاً، لأن كثيراً ممن لا يتصدق يعمه اللفظ في التصديق. ثم إن تقييدهم بقوله: {وأقرضوا} يرد مقصد القراءتين قريباً بعضه من بعض. وقوله: {أقرضوا} معطوف على المعنى، لأن معنى قوله: {إن المصدقين والمصدقات} إن الذين تصدقوا، ولا يصح هنا عطف لفظي، قاله أبو علي في الحجة. وقد تقدم معنى القرض، ومعنى المضاعفة التي وعد الله بها هذه الأمة. وقد تقدم معنى وصف الأجر بالكريم، كل ذلك في هذه السورة. قال القاضي أبو محمد: ويؤيد عندي قراءة من قرأ: «إن المصّدقين» بشد الصاد. إن الله تعالى حض في هذه الآية على الإنفاق وفي سبيل الله تعالى. ثم ذكر في هذه أهل الصدقة ووعدهم، ثم ذكر أهل الإيمان والتصديق في قوله: {والذين آمنوا بالله ورسله} وعلى قراءة من قرأ: «إن المصَدقين» بتخفيف الصاد فذكر المؤمنين مكرر في اللفظ، وكون الأصناف منفردة بأحكامها من الوعد أبين. والإيمان بمحمد يقتضي الإيمان بجميع الرسل، فلذلك قال: {ورسله}. و{الصديقون} بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق على ما ذكر الزجاج، وفعيل لا يكون فيما أحفظ إلا من فعل ثلاثي، وقد أشار بعض الناس إلى أنه يجيء من غير الثلاثي. وقال: مسيك من أمسك، وأقول إنه يقال: مسك الرجل وقد حكى مسك الشيء، وفي هذا نظر. وقوله تعالى: {والشهداء عند ربهم} اختلف الناس في تأويل ذلك، فقال ابن مسعود ومجاهد وجماعة: {والشهداء} معطوف على قوله: {الصديقون} والكلام متصل. ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاتصال، فقال بعضها: وصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء، فكل مؤمن شهيد، قاله مجاهد. وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مؤمنو أمتي شهداء»، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية، وإنما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء السبعة تشريفاً، ولأنهم في أعلى رتب الشهادة، ألا ترى أن المقتول في سبيل الله مخصوص أيضاً من السبعة بتشريف ينفرد به. وقال بعضها: وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء لكن من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد، وذلك نحو قوله تعالى: {لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة: 143] فكأنه قال في هذه الآية: هم أهل الصدق والشهادة على الأمم عند ربهم، وقال ابن عباس ومسروق والضحاك: الكلام تام في قوله: {الصديقون}. وقوله: {والشهداء} ابتداء مستأنف. ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاستئناف، فقال بعضها معنى الآية: {والشهداء} بأنهم صديقون حاضرون {عند ربهم}. وعنى ب {الشهداء}: الأنبياء عليهم السلام، فكأن الأنبياء يشهدون للمؤمنين بأنهم صديقون، وهذا يفسره قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً} [النساء: 41]. وقال بعضها قوله: {والشهيد} ابتداء يريد به الشهداء في سبيل الله، واستأنف الخبر عنهم بأنهم: {عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} فكأنه جعلهم صنفاً مذكوراً وحده، وفي الحديث: «إن أهل الجنة العليا ليراهم من دونهم كما ترون الكوكب الدري، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما». وقوله تعالى: {لهم أجرهم ونورهم} خبر عن الشهداء فقط على الأخير من الأقوال، وهو خبر عن المؤمنين المذكورين في أول الآية على الأقوال الثلاثة. وقوله تعالى: {ونورهم} قال جمهور المفسرين: هو حقيقة حسبما روي مما تقدم ذكره في هذه السورة. وقال مجاهد وغيره: هو مجاز عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى التي حصلوا فيها. ولما فرع ذكر المؤمنين وأهل الكرامة، عقب ذكر الكفرة المكذبين ليبين الفرق، فذكرهم تعالى بأنهم {أصحاب الجحيم} وسكانه.
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} هذه الآية وعظ وتبيين لأمر الدنيا وضعة منزلتها و: {إنما} سادة مسد المفعولين للعلم بأنها تدخل على اثنين وهي وإن كفت عن العمل، فالجملة بعدها باقية. و: {الحياة الدنيا} في هذه الآية عبارة عن الأشغال والتصرفات والفكر التي هي مختصة بالحياة الدنيا، وأما ما كان من ذلك في طاعة الله وسبيله وما كان من الضرورات التي تقيم الأود وتعين على الطاعات فلا مدخل له في هذه الآية. وتأمل حال الملوك بعد فقرهم بين لك أن جميع نزوتهم {لعب ولهو}. والزينة: التحسين الذي هو خارج من ذات الشيء، والتفاخر: هو بالأنساب والأموال وغير ذلك والتكاثر: هو الرغبة في الدنيا، وعددها لتكون العزة للكفار على المذهب الجاهلي. ثم ضرب تعالى مثل الدنيا، فالكاف في قوله: {كمثل} في رفع صفة لما تقدم، وصورة هذا المثال: أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك فيشب ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس، ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط، فيشيب ويضعف ويسقم، وتصيبه النوائب في ماله وذريته، ويموت ويضمحل أمره، وتصير أمواله لغيره، وتغير رسومه، فأمره مثل مطر أصاب أرضاً فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق. ثم هاج: أي يبس واصفر، ثم تحطم، ثم تفرق بالرياح واضمحل. واختلف المتأولون في لفظة {الكفار} هنا، فقال بعض أهل التأويل: هو من الكفر بالله، وذلك لأنهم أشد تعظيماً للدنيا وأشد إعجاباً بمحاسنها. وقال آخرون منهم: هو من كفر الحب، أي ستره في الأرض، فهم الزراع وخصهم بالذكر، لأنهم أهل البصر بالنبات والفلاحة فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة، الذي لا عيب له. وهاج الزرع: معناه: يبس واصفر، وحطام: بناء مبالغة، يقال حطيم وحطام بمعنى محطوم، أو متحطم، كعجيب وعجاب، بمعنى معجب ومتعجب منه. ثم قال تعالى: {وفي الآخرة} كأنه قال: والحقيقة هاهنا، ثم ذكر العذاب أولاً تهمماً به من حيث الحذر في الإنسان ينبغي أن يكون أولاً، فإذا تحرر من المخاوف مد حينئذ أمله. فذكر الله تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه وهو المغفرة والرضوان. وروي عن عاصم: ضم الراء من: «رُضوان». و: {متاع الغرور} معناه: الشيء الذي لا يعظم الاستمتاع به إلا مغتر. وقال عكرمة وغيره: {متاع الغرور} القوارير، لأن الفساد والآفات تسرع إليها، فالدنيا كذلك أو هي أشد.
{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} لما ذكر تعالى المغفرة التي في الآخرة، ندب في هذه الآية إلى المسارعة إليها والمسابقة، وهذه الآية حجة عند جميع العلماء في الندب إلى الطاعات، وقد استدل بها بعضهم على أن أول أوقات الصلوات أفضل، لأنه يقتضي المسارعة والمسابقة، وقد ذكر بعضهم في تفسير هذه الآية أشياء هي على جهة المثال، فقال قوم من العلماء منهم ابن مسعود: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} معناه: كونوا في أول صف في القتال. وقال آخرون، منهم أنس بن مالك معناه: اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام، وقال آخرون منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كن أول داخل في المسجد، وآخر خارج منه، وهذا كله على جهة المثال. وذكر العرض من الجنة، إذ المعهود أنه أقل من الطول، وقال قوم من أهل المعاني: عبر عن الساحة بالعرض ولم يقصد أن طولها أقل ولا أكثر. وقد ورد في الحديث: «إن سقف الجنة العرش». وورد في الحديث: «إن السماوات السبع في الكرسي كالدرهم في الفلاة، وإن الكرسي في العرش كالدرهم في الفلاة». وقوله تعالى: {أعدت} ظاهرة أنها مخلوقة الآن معدة، ونص عليه الحسن في كتاب النقاش. وقوله تعالى: {ما أصاب من مصيبة} قال ابن زيد وغيره المعنى: ما حدث من حادث خير وشر، فهذا على معنى لفظ: {أصاب} لا على عرف المصيبة، فإن عرفها في الشر. وقال ابن عباس ما معناه: أنه أراد عرف المصيبة وخصها بالذكر، لأنها أهم على البشر، وهي بعض من الحوادث تدل على أن جميع الحوادث خيرها وشرها كذلك. وقوله تعالى: {في الأرض} يعني بالقحوط والزلازل وغير ذلك. وقوله: {في أنفسكم} يريد بالموت والأمراض وغير ذلك. وقوله تعالى: {إلا في كتاب} معناه: إلا والمصيبة في كتاب. و: {نبرأها} معناه: نخلقها، يقال: برأ الله الخلق: أي خلقهم، والضمير عائد على المصيبة، وقيل: على {الأرض}، وقيل: على الأنفس، قاله ابن عباس وقتادة وجماعة وذكر المهدوي جواز عود الضمير على جميع ما ذكر، وهي كلها معان صحاح، لأن الكتاب السابق أزلي قبل هذه كلها. وقوله تعالى: {إن ذلك على الله يسير} يريد تحصيل الأشياء كلها في الكتاب. وقوله تعالى: {لكي لا تأسوا} معناه: فعل الله ذلك كله وأعلمكم به ليكون سبب تسليمكم وقلة اكتراثكم بأمر الدنيا، فلا تحزنوا على ما فات، ولا تفرحوا الفرح المبطر بما آتاكم منها. قال ابن عباس: ليس أحد إلا يفرح ويحزن، ولكن من أصابته مصيبة يجعلها صبراً، من أصاب خيراً يجعله شكراً. وقرأ أبو عمرو وحده: «أتاكم» على وزن مضى، وهذا ملائم لقوله: {فاتكم}. وقرأ الباقون من السبعة: «آتاكم»، على وزن أعطاكم، بمعنى آتاكم الله تعالى، وهي قراءة الحسن والأعرج وأهل مكة. وقرأ ابن مسعود: «أوتيتم»، وهي تؤيد قراءة الجمهور. وقوله تعالى: {والله لا يحب كل مختال فخور} يدل على أن الفرح المنهي عنه إنما هو ما أدى إلى الاختيال، والفخر بنعم الله المقترن بالشكر والتواضع فأمر لا يستطيع أحد دفعه عن نفسه ولا حرج فيه.
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)} اختلف النحاة في إعراب: {الذين} فقال بعضهم: هم في موضع رفع على الابتداء، والخبر عنهم محذوف معناه الوعيد والذم، وحذفه على جهة الإبهام كنحو حذف الجواب في قوله تعالى: {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض} [الرعد: 32] الآية، وقال بعضهم هم رفع على خبر الابتداء تقديره هم الذين {يبخلون}. وقال بعضهم في موضع نصب صفة ل {كل} [الحديد: 23]، لأن كلاًّ وإن كان نكرة فهو يخصص نوعاً ما فيسوغ لذلك وصفه بالمعرفة، وهذا مذهب الأخفش. و: {يبخلون} معناه: بأموالهم وأفعالهم الحسنة من إيمانهم وغير ذلك. وقوله تعالى: {ويأمرون الناس} يحتمل أن يصفهم بحقيقة الأمر بألسنتهم، ويحتمل أن يريد أنهم يقتدى بهم في البخل فهم لذلك كأنهم يأمرون. وقرأ الحسن: «بالبَخَل» بفتح الباء والخاء. وقرأ جمهور القراء وأهل العراق: «فإن الله هو الغني الحميد» بإثبات: «هو»، وكذلك في «إمامهم». وقرأ نافع وابن عامر: «فإن الله الغني الحميد» بترك «هو»، وهي قراءة أهل المدينة، وكذلك في «إمامهم»، وهذا لم يثبت قراءة إلا وقد قرئ على النبي صلى الله عليه وسلم بالوجهين. قال أبو علي، ف «هو» في القراءة التي ثبت فيها يحسن أن يكون ابتداء، لأن حذف الابتداء غير سائغ. و: {الكتاب} اسم جنس لجميع الكتب المنزلة. {والميزان}: العدل في تأويل أكثر المتأولين. وقال ابن زيد وغيره من المتأولين: أراد الموازين المصرفة بين الناس، وهذا جزء من القول الأول. وقوله: {ليقوم الناس بالقسط} يقوي القول الأول. وقوله تعالى: {وأنزلنا الحديد} عبر عن خلقه وإيجاده بالإنزال كما قال في الثمانية الأزواج من الأنعام، وأيضاً فإن الأمر بكون الأشياء لما تلقى من السماء، جعل الكل نزولاً منها. وقال جمهور كثير من المفسرين: {الحديد} هنا: أراد به جنسه من المعادن وغيرها. وقال ابن عباس: نزل آدم من الجنة ومعه السندان والكلبتان والميقعة، قال حذاق من المفسرين: أراد به السلاح، ويترتب معنى الآية بأن الله أخبر أنه أرسل رسله وأنزل كتباً وعدلاً مشروعاً وسلاحاً يحارب به من عند ولم يهتد بهدي الله فلم يبق عذر، وفي الآية على هذا التأويل حض على القتال وترغيب فيه. وقوله: {وليعلم الله من ينصره} يقوي هذا التأويل، ومعنى قوله: {ليعلم} أي ليعلمه موجوداً فالتغير ليس في علم الله، بل في هذا الحدث الذي خرج من العدم إلى الوجود. وقوله: {بالغيب} معناه: بما سمع من الأوصاف الغائبة فآمن بها لقيام الأدلة عليها. ثم وصف تعالى نفسه بالقوة والعزة ليبين أنه لا حاجة به إلى النصرة، لكنها نافعة من عصم بها نفسه من الناس. ثم ذكر تعالى رسالة «نوح وإبراهيم» تشريفاً لهما بالذكر، ولأنهما من أول الرسل. ثم ذكر تعالى نعمه على {ذريتهما}. وقوله تعالى: {والكتاب} يعني الكتب الأربعة، فإنها جميعاً في ذرية إبراهيم عليه السلام. وذكر أنهم مع ذلك منهم من فسق وعند، فكذلك بل أحرى جميع الناس، ولذلك يسر السلاح للقتال.
{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)} {قفينا} معناه: جئنا بهم بعد الأولين، وهو مأخوذ من القفا، أي جاء بالثاني في قفا الأول، فيجيء الأول بين يدي الثاني، ومنه القوافي التي تأتي أواخر أبيات الشعر، ثم ذكر «عيسى» عليه السلام تشريفاً وتخصيصاً. وقرأ الحسين: «الأنجيل» بفتح الهمزة، قال أبو الفتح: هذا مما لا نظير له. و: {رأفة ورحمة ورهبانية} مفعولات {جعلنا}. والجعل في هذه الآية بمعنى: الخلق. وقوله: {ابتدعوها} صفة ل {رهبانية} وخصها بأنها ابتدعت، لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها، وأما الرهبانية هم ابتدعوها، والمراد بالرأفة والرحمة: حب بعضهم في بعض وتوادهم، والمراد بالرهبانية: رفض النساء، واتخاذ الصوامع، والمعتزلة تعرب {رهبانية} أنها نصب بإضمار فعل يفسره {ابتدعوها} وليست بمعطوفة على الرأفة والرحمة ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله فيعربون الآية على مذهبهم، وكذلك أعربها أبو علي. وروي في ابتداعهم الرهبانية أنهم افترقوا ثلاث فرق، ففرقة قاتلت الملوك على الدين، فقتلت وغلبت. وفرقة قعدت في المدن يدعون إلى الدين ويبينونه، فأخذتها الملوك ونشرتها بالمناشر وقتلوا، وفرقة خرجت إلى الفيافي وبنت الصوامع والديارات، وطلبت أن تسلم على أن تعتزل فتركت وتسموا بالرهبان، واسمهم مأخوذ من الرهب، وهو الخوف، فهذا هو ابتداعهم ولم يفرض الله ذلك عليهم، لكنهم فعلوا ذلك {ابتغاء رضوان الله}، هذا تأويل أبي أمامة وجماعة، وقال مجاهد: المعنى {كتبناها عليهم} {ابتغاء رضوان الله}. ف «كتب» على هذا بمعنى: قضى، ويحتمل اللفظ أن يكون المعنى: ما كتبناها عليهم إلا في عموم المندوبات، لأن ابتغاء مرضاة الله بالقرب والنوافل مكتوب على كل أمة فالاستثناء على هذا احتمال متصل. واختلف الناس في الضمير الذي في قوله: {فما رعوها} من المراد به؟ فقيل إن الذين ابتدعوا الرهبانية بأنفسهم لم يدوموا على ذلك ولا وفوه حقه، بل غيروا وبدلوا، قاله ابن زيد وغيره، والكلام سائغ وإن كان فيهم من رعى: أي لم يرعوها بأجمعهم، وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل أنه يلزمه أن يرعاه حق رعيه. قال ابن عباس وغيره: الضمير للملوك الذين حاربوهم وأجلوهم وقال الضحاك وغيره: الضمير للأخلاف الذين جاؤوا بعد المبتدعين لها، وباقي الآية بين. وقرأ ابن مسعود: «ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها». وقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله} اختلف الناس في المخاطب بهذا، فقالت فرقة من المتأولين خوطب بهذا أهل الكتاب، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بعيسى اتقوا الله وآمنوا بمحمد، ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي»، الحديث وقال آخرون المخاطبة للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قيل لهم {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله}، أي اثبتوا على ذلك ودوموا عليه، وهذا هو معنى الأمر أبداً لمن هو متلبس بما يؤمر به. وقوله: {كفلين} أي نصيبين بالإضافة إلى ما كان الأمم قبل يعطونه، قال أبو موسى الأشعري: {كفلين} ضعفين بلسان الحبشة، وروي أن عمر بن الخطاب قال لبعض الأحبار: كم كان التضعيف للحسنات فيكم؟ فقال ثلاثمائة وخمسون، فقال عمر: الحمد لله الذي ضاعف لنا إلى سبعمائة، ويؤيد هذا المعنى الحديث الصحيح الذي يقتضي أن اليهود عملت إلى نصف النهار على قيراط، والنصارى من الظهر إلى العصر على قيراط، وهذه الأمة من العصر إلى الليل على قيراطين، فلما احتجت اليهود والنصارى على ذلك وقالوا نحن أكثر عملاً وأقل أجراً، قال الله تعالى: «هل نقصتم من أجركم شيئاً، قالوا: لا، قال: فإنه فضلي أوتيه من أشاء». والكفل: الحظ والنصيب. والنور: هنا إما أن يكون وعداً بالنور الذي يسعى بين الأيدي يوم القيامة، وإما أن يكون استعارة للهدى الذي يمشي به في طاعة الله.
{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)} روي أنه لما نزل هذا الوعد للمؤمنين حسد أهل الكتاب على ذلك، وكانت اليهود تعظم دينها وأنفسها وتزعم أنها أحباء الله وأهل رضوانه، فنزلت هذه الآية معلمة أن الله تعالى فعل ذلك وأعلم به ليعلم أهل الكتاب أنهم ليسوا كما يزعمون، و«لا» في قوله: {لئلا} زائدة كما هي في قوله تعالى: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} [الأنبياء: 95] على بعض التأويلات. وقرأ ابن عباس «ليعلم أهل الكتاب»، وروى إبراهيم التيمي عن ابن عباس: «كي يعلم»، وروي عن ابن عباس: «لكي لا يعلم». وروي عن حطان الرقاشي أنه قرأ: «لأي يعلم». وقرأ ابن مسعود وابن جبير وعكرمة: «لكي يعلم أهل الكتاب»، وقرأ الحسن فيما روى ابن مجاهد: «لَيْلا يعلم» بفتح اللام وسكون الياء. فأما فتح اللام فلغة في لام الجر مشهورة وأصل هذه القراءة «لأن لا»، استغني عن الهمزة بلام الجر فحذفت فجاء «لأن لا»، أدغمت النون في اللام للتشابه فجاء «للا»، اجتمعت أمثلة فقلبت اللام الواحدة ياء. وقرأ الحسن فيما روى قطرب: «لِيْلا» بكسر اللام وسكون الياء وتعليلها كالتي تقدم. وقوله تعالى: {ألا يقدرون} معناه: أنهم لا يملكون فضل الله ويدخل تحت قدرهم، وقرأ ابن مسعود: «ألا يقدروا» بغير نون، وباقي الآية بين.
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)} {سمع الله} عبارة عن إدراكه المسموعات على ما هي ما عليه بأكمل وجوه ذلك دون جارحة ولا محاداة ولا تكييف ولا تحديد تعالى الله عن ذلك. وقرأ الجمهور: {قد سمع} بالبيان: وقرأ ابن محيصن: {قد سمع} بالإدغام، وفي قراءة ابن مسعود: «قد يسمع الله قول التي»، وفيها: «والله قد يسمع تحاوركما». واختلف الناس في اسم التي تجادل، فقال قتادة هي خويلة بنت ثعلبة، وقيل عن عمر بن الخطاب أنه قال: هي خولة بنت حكيم. وقال بعض الرواة وأبو العالية هي خويلة بنت دليج، وقال المهدوي، وقيل: خولة بنت دليج، وقالت عائشة: هي خميلة. وقال ابن إسحاق: هي خولة بنت الصامت. وقال ابن عباس فيها: خولة بنت خويلد، وقال محمد بن كعب القرظي ومنذر بن سعيد: هي خولة بنت ثعلبة، قال ابن سلام: «تجادل» معناه تقاتل في القول، وأصل الجدل القتل، وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة: أوس بن الصامت أو عبادة بن الصامت. وحكى النقاش وهو في المصنفات حديثاً عن سلمة بن صخر البياضي أنه ظاهر من امرأته أن واقعها مدة شهر رمضان فواقعها ليلة فسأل قومه أن يسألوا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا وهابوا ذلك وعظموا عليه، فذهب هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وسأله واسترشدوه فنزلت الآية. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتعتق رقبة؟ فقال له والله ما أملك رقبة غير رقبتي، فقال: أتصوم شهرين متتابعين؟ فقال يا رسول الله وهل أتيت إلا في الصوم، فقال: تطعم ستين مسكيناً؟» فقال: لا أجد، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات قومه فكفر بها فرجع سلمة إلى قومه فقال: إني وجدت عندكم الشدة والغلظة، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرخصة والرفق وقد أعطاني صدقاتكم. وأما ما رواه الجمهور في شأن أوس بن الصامت، فاختصاره: أن أوساً ظاهر من امرأته خولة بنت خويلد، وكان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤيدة، قاله أبو قلابة وغيره، فلما فعل ذلك أوس، جاءت زوجته رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أوساً أكل شبابي، ونثرت له بطني فلما كبرت ومات أهلي، ظاهر مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أراك إلا قد حرمت عليه»، فقالت يا رسول الله: لا تفعل فإني وحيدة ليس لي أهل سواه، فراجعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل مقالته، فراجعته، فهذا هو جدالها، وكانت في خلال جدالها تقول: اللهم إليك أشكو حالي وفقري وانفرادي إليه، وروي أنها كانت تقول: اللهم إن لي منه صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، فهذا هو اشتكاؤها إلى الله، فنزل الوحي عند جدالها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات. وكانت عائشة حاضرة لهذه القصة كلها فكانت تقول: سبحان من وسع سمعه الأصوات، لقد كنت حاضرة وكان بعض كلام خولة يخفى علي، وسمع الله جدالها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوس فقال له: «أتعتق رقبة؟ فقال والله ما أملكها، فقال أتصوم شهرين متتابعين؟ فقال: والله ما أقدر أن أصبر إلا على أكلات ثلاث في اليوم، ومتى لم أفعل ذلك غشي بصري فقال له: أتطعم؟» فقال له لا أجد إلا أن تعينني يا رسول الله بمعونة وصلاة يريد الدعاء، فأعانه رسول الله بخمسة عشر صاعاً ودعا له، وقيل بثلاثين صاعاً، فكفر بالإطعام وأمسك أهله. وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «تحاورك في زوجها»، والمحاورة مراجعة القول ومعاطاته. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «يظهرون»، وقرأ أبي بن كعب بخلاف عنه: «يتظهرون». وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: «يظاهرون». وقرأ أبي بن كعب أيضاً: «يتظاهرون». وقرأ عاصم والحسن وأبو جعفر وقتادة: «يُظاهرون» بضم الياء من قولك فاعل، وهذه مستعملة جداً وقولهم الظهار دليل عليها، والمراد بهذا كله قول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، يريد في التحريم كأنها إشارة إلى الركوب، إذ عرفه في ظهور الحيوان، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، فرد الله بهذه الآية فعلهم، وأخبر بالحقيقة من أن الأم هي الوالدة، وأما الزوجة فلا يكون حكمها حكم الأم. وقرأ جمهور الناس: «أمهاتِهم» بنصب الأمهات، وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه: «أمهاتُهم» بالرفع وهذا على اللغتين في {ما} لغة الحجاز ولغة تميم، وقرأ ابن مسعود «ما هنّ بأمهاتهم» بزيادة باء الجر، وجعل الله تعالى القول بالظهار {منكراً} {وزوراً}، فهو محرم، لكنه، إذا وقع لزم، هكذا قال فيه أهل العلم، لكن تحريمه تحريم المكروهات جداً، وقد رجى الله تعالى بعده بأنه {لعفو غفور} مع الكفارة.
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)} اختلف الناس في معنى قوله عز وجل: {ثم يعودون لما قالوا} فقال قوم: المعنى {والذين يظاهرون من نسائهم} في الجاهلية، كأنه قال: والذين كان الظهار عادتهم ثم يعودون في ذلك في الإسلام، وقاله القتبي وقال أهل الظاهر المعنى: والذين يظاهرون ثم يظاهرون ثم ثانية فلا يلزم عندهم كفارة إلا بأن يعيد الرجل الظهار، قاله منذر بن سعيد، وحينئذ هو عائد إلى القول الذي هو منكر وزور. قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف، وإن كان القشيري قد حكاه عن بكير بن عبد الله بن الأشج وقال بعض الناس في هذه الآية تقديم وتأخير، وتقديرها: «فتحرير رقبة لما قالوا»، وهذا أيضاً قول يفسد نظر الآية، وحكي عن الأخفش، لكنه غير قوي. وقال قتادة وطاوس ومالك والزهري وجماعة كثيرة من أهل العلم معنى: {ثم يعودون لما قالوا} أي للوطء فالمعنى ثم يعودون لما قالوا إنهم لا يعودون فإذا ظاهر الرجل ثم وطئ فحينئذ تلزمه الكفارة في ذمته وإن طلق أو ماتت امرأته. وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك أيضاً وفريق {يعودون} معناه: بالعوم على إمساك الزوجة ووطئها والتزام التكفير لذلك، فمتى وقع من المظاهر هذا العزم لزمت الكفارة ذمته، طلق أو ماتت المرأة. قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان في مذهب مالك رحمه الله هما حسنان لزمت الكفارة فيهما بشرطين: ظهار وعود. واختلفا في العود ما هو؟ وقال الشافعي العود الموجب للكفارة: أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار ويمضي بعد الظهار ما يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق، والرقبة في الظهار لا تكون عند مالك إلا مؤمنة، رد هذا: إلى المقيد الذي في كفارة القتل الخطأ. واختلف والناس في قوله تعالى: {من قبل أن يتماسا} فقال الحسن والثوري وجماعة من قبل الوطء، وجعلت المسيس هاهنا الوطء، فأباحت للمظاهر التقبيل والمضاجعة والاستمتاع بأعلى المرأة كالحائض. وقال جمهور أهل العلم قوله: {من قبل أن يتماسا} عام في نوع المسيس الوطء والمباشرة، فلا يجوز لمظاهر أن يطأ ولا يقبل ولا يلمس بيده، ولا يفعل شيئاً من هذا النوع إلا بعد الكفارة، وهذا قول مالك رحمه الله. وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى التحرير أي فعل عظة لكم لتنتهوا عن الظهار، والتتابع في الشهرين صيامهما ولا بين أيامهما، وجائز أن يصومهما الرجل بالعدد، فيصوم ستين يوماً تباعاً، وجائز أن يصومهما بالأهلة، يبدأ مع الهلال ويفطر مع الهلال، وإن جاء أحد شهريه ناقصاً، وذلك مجزئ عنه، وجائز إن بدأ صومه في وسط الشهر أن يبعض الشهر الأول فيصوم إلى الهلال ثم يصوم شهراً بالهلال ثم يتم الشهر الأول بالعدد. ولا خلاف أحفظه من أهل العلم أن الصائم في الظهار إن أفسد التتابع باختياره أنه يبتدأ صومها. واختلف الناس إذا أفسده لعذر غالب: كالمرض والنسيان ونحوه، فقال أصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه والنخعي وابن جبير والحكم بن عيينة والثوري: يبتدئ، وقال مالك والشافعي وغيره: يبني. وأجمعوا على الحائض وأنها تبني في صومها التتابع. وإطعام المساكين في الظهار هو بالمد الهاشمي عند مالك، وهو مد وثلث بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل مدان غير ثلث. وروى عنه ابن وهب أنه يطعم كل مسكين مدين بمد النبي عليه السلام وفي العلماء من يرى إطعام الظهار مداً بمد النبي عليه السلام، ولا يجزئ في إطعام الظهار إلا إكمال عدد المساكين، ولا يجوز أن يطعم ثلاثين مرتين ولا ما أشبهه، والطعام عو غالب قوت البلد. قال مالك رحمه الله وعطاء وغيره: إطعام المساكين أيضاً هو قبل التماس حملاً على العتق والصوم. وقال أبو حنيفة وجمهور من أهل العلم لم ينص الله على الشرط هنا، فنحن نلتزمه، فجاز للمظاهر إذا كان من أهل الإطعام أن يطأ قبل الكفارة ويستمتع. وقوله: {ذلك لتؤمنوا} إشارة إلى الرخصة والتسهيل في النقل من التحرير إلى الصوم، والإطعام ثم شدد تعالى بقوله: {تلك حدود الله} أي فالتزموها وقفوا عندها، ثم توعد الكافرين بهذا الحديث والحكم الشرعي.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} هذه الآيات نزلت في منافقين وقوم من اليهود كانوا في المدينة يتمرسون برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويتربصون بهم الدوائر، ويدبرون عليهم ويتمنون فيهم المكروه ويتناجون بذلك، فنزلت هذه الآيات إلى آخر أمر النجوى فيهم، والمحادة: أن يعطي الإنسان صاحبه حد قوله أو سلاحه وسائر أفعاله. وقال قوم: هو أن يكون الإنسان في حد، وصاحبه في حد مخالف. و: كبت الرجل: إذا بقي خزيان يبصر ما يكره ولا يقدر على دفعه. وقال قوم منهم أبو عبيدة أصله كبدوا، أي أصابهم داء في أكبادهم، فأبدلت الدال تاء. قال القاضي أبو محمد: وهذا غير قوي. و: {الذين من قبلهم} سابقو الأمم الماضية الذين حادوا الرسل قديماً. وقوله تعالى: {وقد أنزلنا آيات بينات} يريد في هذا القرآن، فليس هؤلاء المنافقون بأعذر من المتقدمين. وقوله تعالى: {يوم يبعثهم الله} العامل في: {يوم} قوله: {مهين}، ويحتمل أن يكون فعلاً مضمراً تقديره: اذكر. وقوله: {ونسوه} نسيان على بابه، لأن الكافر لا يحفظ تفاصيل أعماله ولما أخبر تعالى أنه {على كل شيء شهيد} وقف محمد عليه السلام توقيفاً تشاركه فيه أمته. وقوله تعالى: {من نجوى ثلاثة}، يحتمل {من نجوى} أن يكون مصدراً مضافاً إلى {ثلاثة}، كأنه قال: من سرار ثلاثة، ويحتمل {نجوى} أن يكون المراد به جمعاً من الناس مسمى بالمصدر كما قال في آية أخرى: {وإذ هم نجوى} [الإسراء: 47] أي أولو نجوى، فيكون قوله تعالى: {ثلاثة} على هذا بدلاً {من نجوى} وفي هذا نظر. وقوله تعالى: {إلا هو رابعهم} أي بعلمه وإحاطته ومقدرته. وقرأ جمهور الناس: «ما يكون» وقرأ أبو جعفر القارئ وأبو جيوة: «ما تكون» بالتاء منقوطة من فوق. وفي مصحف ابن مسعود: «ولا أربعة إلا الله خامسهم»، وكذلك: «إلا الله رابعهم»، و: «إلا الله سادسهم». وقرأ جمهور القراء: «ولا أكثر» عطفاً على اللفظ المخفوض، وقرأ الأعمش والحسن وابن أبي إسحاق: «ولا أكثرُ» بالرفع عطفاً على الموضع، لأن التقدير ما يكون نجوى، ومن جعل النجوى مصدراً محضاً قدر قبل {أدنى} فعلاً تقديره: ولا يكون أدنى. وقرأ الخليل بن أحمد: «ولا أكبر»، بالباء واحدة من تحت، وباقي الآية بين.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)} هذه الآية نزلت في قوم من اليهود نهاهم رسول الله عن التناجي بحضرة المؤمنين وإظهار ما يستراب منه من ذلك فلم ينتهوا، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس نزلت في اليهود والمنافقين. وقرأ جمهور القراء والناس: «ويتناجون» على وزن يتفاعلون، وقرأ حمزة والأعمش وطلحة وابن وثاب «وينتجون» على وزن يفتعلون وهما بمعنى واحد كيقتتلون ويتقاتلون وفي مصحف عبد الله بن مسعود: «وعصيان الرسول». وقوله تعالى: {وإذا جاؤوك حيوك} الآية، يريد بذلك ما كانت اليهود تفعله من قولهم في التحية السام عليك يا محمد، وذلك أنه روي أن اليهود كانت تأتي فتقول: السام عليك يا محمد، والسام: الموت، وإياه كانوا يريدون، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «وعليكم»، فسمعتهم عائشة يوماً فقالت: بل عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله: «مهلاً يا عائشة إن الله يكره الفحش والتفحش»، قالت: أما سمعت ما قالوا؟ قال: «أما سمعت ما قلت لهم؟ إني قلت وعليكم». ثم كشف الله تعالى خبث طويتهم والحجة التي إليها يستروحون، وذلك أنهم كانوا يقولون: نحن الآن نلقى محمداً بهذه الأمور التي تسوؤه ولا يصيبنا سوء، ولا يعاقبنا الله بذلك، ولو كان نبياً لهلكنا بهذه الأقوال، وجهلوا أن أمرهم مؤخر إلى عذاب جهنم، فأخبر الله بذلك وأنها كافيتهم. وقال ابن عباس: هذه الآية كلها في منافقين، ويشبه أن من المنافقين من تخلق في هذا كله بصفة اليهود.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} وصى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بأن لا يكون لهم تناج في مكروه، وذلك عام في جميع الناس إلى يوم القيامة. وخص «الإثم» بالذكر لعمومه {والعدوان} لعظمته في نفسه، إذ هي ظلامات العباد، وكذلك {معصية الرسول} ذكرها طعناً على المنافقين إذ كان تناجيهم في ذلك. وقرأ جمهور الناس: «فلا تتناجوا» على وزن تتفاعلوا، وقرأ ابن محيصن «تناجوا» بحذف التاء الواحدة. وقرأ بعض القراء: «فلا تّناجوا» بشد التاء لأنها أدغمت التاء في التاء، وقرأ الأعمش وأهل الكوفة: «فلا تنتجوا» على وزن تفتعلوا. والناس: على ضم العين من «العُدوان». وقرأها أبو حيوة بكسر العين حيث وقع. وقرأ الضحاك وغيره: «ومعصيات الرسول» على الجمع فيهما. ثم أمر بالتناجي {بالبر والتقوى}، وذكر بالحشر الذي معه الحساب ودخول أحد الدارين وقوله تعالى: {إنما النجوى}، ليست {إنما} للحصر ولكنها لتأكيد الخبر. واختلف الناس في {النجوى} التي هي {من الشيطان} التي أخبر عنها في هذه الآية، فقال جماعة من المفسرين أراد: {إنما النجوى} في الإثم والعدوان ومعصية الرسول {من الشيطان}، وقال قتادة وغيره: الإشارة إلى نجوى المنافقين واليهود، وقال عبد الله بن زيد بن أسلم: الإشارة إلى نجوى قوم من المسلمين كانوا يقصدون مناجاة النبي عليه السلام، وليس لهم حاجة ولا ضرورة إلى ذلك، وإنما كانوا يريدون التبجح بذلك، وكان المسلمون يظنون أن تلك النجوى في أخبار بعد وقاصد أو نحوه. قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان يعضدهما ما يأتي من ألفاظ الآية، ولا يعضد القول الأول. وقال عطية العوفي في هذه الآية: نزلت في المنامات التي يراها المؤمن فتسوءه، وما يراه النائم فكأنه نجوى يناجى بها. قال القاضي أبو محمد: وهذا قول أجنبي من المعنى الذي قبله والذي بعده. وقرأ نافع وأهل المدينة: «ليُحزِن» بضم الياء وكسر الزاي، والفعل مسند إلى {الشيطان}، وقرأ أبو عمرو والحسن وعاصم وغيرهم: «ليَحزُن» بفتح الياء وضم الزاي، تقول حزُنت قلب الرجل: إذا جعلت فيه حزناً، فهو كقولك كحلت العين، وهو ضرب من التعدي، كأن المفعول ظرف. وقد ذكر سيبويه رحمه الله هذا النوع من تعدي الأفعال، وقرأ بعض الناس: «ليَحزَن» بفتح الياء والزاي. و: {الذين} على هذه القراءة رفع بإسناد الفعل إليهم، يقال حَزِن الرجل بكسر الزاي. ثم أخبر تعالى أن الشيطان أو التناجي الذي هو منه ليس بضار أحداً إلا أن يكون ضر بإذن الله أي بأمره وقدره. ثم أمر بتوكل المؤمنين عليه تبارك وتعالى: وهذا كله يقوي أن التناجي الذي من الشيطان إنما هو الذي وقع منه للمؤمنين خوف، وللخوف اللاحق للقلوب في هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يتناجى اثنان دون الثالث».
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)} قرأ جمهور الناس: «تفسحوا»، وقرأ الحسن وداود بن أبي هند: «تفاسحوا»، وقرأ جمهور القراء: «في المجلس»، وقرأ عاصم وحده وقتادة وعيسى: «في المجالس». واختلف الناس في سبب الآية والمقصود بها، فقال ابن عباس ومجاهد والحسن: نزلت في مقاعد الحرب والقتال. وقال زيد بن أسلم وقتادة: نزلت بسبب تضايق الناس في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم كانوا يتنافسون في القرب منه وسماع كلامه والنظر إليه، فيأتي الرجل الذي له الحق والسن والقدم في الإسلام فلا يجد مكاناً، فنزلت بسبب ذلك. وقال مقاتل: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً ليجلس أشياخ من أهل بدر ونحو ذلك فنزلت الآية، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس فيه الرجل ولكن تفسحوا يفسح الله لكم»، وقال بعض الناس: إنما الآية مخصوصة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في سائر المجالس، ويدل على ذلك قراءة من قرأ: «في المجلس»، ومن قرأ «في المجالس» فذلك مراده أيضاً لأن لكل أحد مجلساً في بيت النبي صلى الله عليه وسلم وموضعه فتجمع لذلك، وقال جمهور أهل العلم: السبب مجلس النبي عليه السلام، والحكم في سائر المجالس التي هي للطاعات، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحبكم إلى الله ألينكم مناكب في الصلاة وركباً في المجالس»، وهذا قول مالك رحمه الله وقال: ما أرى الحكم إلا يطرد في مجالس العلم ونحوها غابر الدهر، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ: «في المجالس»، ومن قرأ: «في المجلس» فذلك على هذا التأويل اسم جنس فالسنة المندوب إليها هي التفسح والقيام منهي عنه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث نهى أن يقوم الرجل فيجلس الآخر مكانه، فأما القيام إجلالاً فجائز بالحديث قوله عليه السلام حين أقبل سعد بن معاذ: «قوموا إلى سيدكم»، وواجب على المعظم ألا يحب ذلك ويأخذ الناس به لقوله عليه السلام: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار». وقوله تعالى: {يفسح الله لكم} معناه: في رحمته وجنته، وقوله تعالى: {وإذا قيل انشزوا فانشزوا} معناه: إذا قيل لكم ارتفعوا وقوموا فافعلوا ذلك، ومنه نشوز العظام أي نباتها، والنشز من الأرض المرتفع، واختلف الناس في هذا النشوز الذي أمروا بامتثاله إذا دعوا إليه. فقال الحسن وقتادة والضحاك معناه: إذا دعوا إلى قتال أو طاعة أو صلاة ونحوه، وقال آخرون معناه: إذا دعوا إلى القيام عن النبي عليه السلام لأنه كان أحياناً يحب الانفراد في آمر الإسلام فربما جلس قوم وأراد كل واحد أن يكون آخر الناس عهداً بالنبي عليه السلام، فنزلت الآية آمرة بالقيام عنه متى فهم ذلك بقول أو فعل، وقال آخرون معناه: {انشزوا} في المجلس بمعنى التفسح لأن الذي يريد التوسعة يرتفع إلى فوق في الهواء فإذا فعل ذلك جملة اتسع الموضع، فيجيء {انشزوا} في غرض واحد مع قوله {تفسحوا}، وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم: «انشُزوا» برفع الشين وهي قراءة أبي جعفر وشيبة والأعرج. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بكسر السين فيهما، وهي قراءة الحسن والأعمش وطلحة. يقال: نشز ينشِز كحشر يحشِر ويحشُر وعكف يعكِف ويعكُف. وقوله {يرفع الله} جواب الأمر، واختلف الناس في ترتيب قوله تعالى: {الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} فقال جماعة من المتأولين المعنى: {يرفع الله} المؤمنين العلماء منكم {درجات}، فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم، ويجيء على هذا قوله: {والذين أوتوا العلم} بمنزلة قولك جاءني العاقل والكريم والشجاع، وأنت تريد بذلك رجلاً واحداً، وقال آخرون المعنى: {يرفع الله} المؤمنين والعلماء الصنفين جميعاً {درجات} لكنا نعلم تفاضلهم في الدرجات من مواضع أخرى ولذلك جاء الأمر بالتفسح عاماً للعلماء وغيرهم، وقال عبد الله بن مسعود وغيره: {يرفع الله الذين آمنوا منكم} وتم القول، ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات ونصبهم بإضمار فعل، فالمؤمنون رفع على هذا التأويل وللعلماء درجات، وعلى هذا التأويل قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة وخير دينكم الورع، ثم توعد تعالى وحذر بقوله: {والله بما تعملون خبير}، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول} الآية. روي عن ابن عباس وقتادة في سببها أن قوماً من شباب المؤمنين وأغفالهم كثرت مناجاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمحاً لا يرد أحداً فنزلت هذه الآية مشددة عليهم أمر المناجاة، وقال مقاتل: نزلت في الأغنياء لأنهم غلبوا الفقراء على مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال جماعة من الرواة: لم يعمل بهذه الآية بل نسخت قبل العمل لكن استقر حكمها بالعزم عليه كأمر إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه، وصح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: ما عمل بها أحد غيري وأنا كنت سبب الرخصة والتخفيف عن المسلمين وذلك أني أردت مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر ضروري فصرفت ديناراً بعشرة دراهم، ثم ناجيته عشر مرار أقدم في كل مرة درهماً، وروي عنه أنه تصدق في كل مرة بدينار فقال علي ثم فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه العبادة قد شقت على الناس فقال لي يا علي: كم ترى أن يكون حد هذه الصدقة، أتراه ديناراً؟، قلت: لا، قال نصف دينار، قلت: لا، قال فكم: قلت حبة من شعير قال إنك لزهيد، فأنزل الله الرخصة. قال القاضي أبو محمد: يريد للواجد وأما من لا يجد فالرخصة له ثابتة أولاً بقوله تعالى: {فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم}. وقال مقاتل: بقي هذا الحكم عشرة أيام، وقال قتادة: بقي ساعة من نهار، وقرأ جمهور من الناس: «صدقة» بالإفراد، وقرأ بعض القراء «صدقات» بالجمع.
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)} الإشفاق: الفزع من العجز عن الشيء المتصدق به أو من ذهاب المال في الصدقة وله وجوه كثيرة يقال فيها الإشفاق، لكنه في هذا الموضع كما ذكرت، {وتاب الله عليكم} معناه: رجع بكم، وقوله {فأقيموا الصلاة} الآية المعنى دوموا على هذه الأعمال التي هي قواعد شرعكم ومن قال إن هذه الصدقة منسوخة بآية الزكاة، فقوله ضعيف لا يحصل كيف النسخ، وما ذكر في نحو هذا عن ابن عباس لا يصح عنه والله أعلم، وقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين تولوا} نزلت في قوم من المنافقين تولوا قوماً من اليهود وهم المغضوب عليهم، وقال الطبري: {ما هم} يريد به المنافقين و{منكم} يريد به المؤمنين و{منهم} يريد به اليهود. قال القاضي أبو محمد: وهذا التأويل يجري مع قوله تعالى: {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} [النساء: 143]، ومع قوله عليه السلام: «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين لأنه مع المؤمنين بقوله ومع الكافرين بقلبه»، ولكن هذه الآية تحتمل تأويلاً آخر وهو أن يكون قوله {ما هم} يريد به اليهود، وقوله: {ولا منهم} يريد به المنافقين فيجيء فعل المنافقين على هذا التأويل أحسن لأنهم تولوا قوماً مغضوباً عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صواباً. وقوله {يحلفون} يعني المنافقين لأنهم كانوا إذا وقفوا على ما يأتون به من بغض النبي صلى الله عليه وسلم وشتمه وموالاة عدوه حلفوا أنهم لا يفعلون ذلك واستسهلوا الحنث، ورويت من هذا نوازل كثيرة اختصرتها إيجازاً وإذا تتبعت في المصنفات وجدت كقول ابن أبي لئن رجعنا إلى المدينة وحلفه على أنه لم يقل وغير ذلك، والعذاب الشديد هو عذاب الآخرة. وقرأ جمهور الناس: «أيمانهم» جمع يمين. وقرأ الحسن بن أبي الحسن: «إيمانهم»، أي يظهرونه من الإيمان والجنة: ما يتستر به ويتقي المحذور، ومنه المجن: وهو الترس: وقوله {فصدوا عن سبيل الله} يحتمل أن يكون الفعل غير متعد كما تقول صد زيد، أي صدوا هم أنفسهم عن سبيل الله والإيمان برسوله، ويحتمل أن يكون متعدياً أي صدوا غيرهم من الناس عن الإيمان ممن اقتدى بهم وجرى في مضمارهم، ويحتمل أن يكون المعنى {فصدوا} المسلمين عن قتلهم، وتلك {سبيل الله} فيهم لكن ما أظهروه منا لإيمان صدوا به المسلمين عن ذلك، والمهين: المذل من الهوان.
{لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)} روي أن المنافقين فخروا بكثرة أموالهم وأولادهم وأظهروا السرور بذلك، فنزلت الآية معلمة أن ذلك لا غناء له عنهم ولا مدفع بسببه. والعامل في قوله {يوم يبعثهم}، {أصحاب} على تقدير فعل، وأخبر الله تعالى عنهم في هذه الآية أنه ستكون لهم أيمان يوم القيامة وبين يدي الله يخيل إليهم بجهلهم أنها تنفعهم وتقبل منهم، وهذا هو حسابهم {أنهم على شيء}، أي على فعل نافع لهم، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي: قال النبي عليه السلام: «ينادي مناد يوم القيامة: أين خصماء الله، فتأتي القدرية مسودة وجوههم زرقة أعينهم، فيقولون والله ما عبدنا شمساً ولا قمراً ولا صنماً ولا اتخذنا من دونك ولياً»، قال ابن عباس: صدقوا والله ولكن أتاهم الإشراك من حيث لا يعلمون، ثم تلا ابن عباس هذه الآية، وقوله تعالى: {استحوذ عليهم الشيطان} معناه: تملكهم من كل جهة وغلب على نفوسهم، وهذا الفعل مما استعمل على الأصل فإن قياس التعليل يقتضي أن يقال: استحاذ، وحكى الفراء في كتاب اللغات أن عمر رضي الله عنه قرأ: «استحاذ». و{يحادون} معناه: يعطون الحد من الأفعال والأقوال، وقال بعض أهل المعاني: معناه يكونون في حد غير الحد الذي شرع الله تعالى، ثم قضى تعالى على محاده بالذل وأخبر أنه كتب فيما أمضاه من قضائه وقدره في الأزل أنه يغلب هو ورسله كل من حاد الله والرسل. وقرأ نافع وابن عامر: «ورسليَ» بفتح الياء. وقرأ الباقون بسكونها. وقال الحسن وغيره: ما أمر الله تعالى قط رسولاً بالقتال إلا وغلبه، وظفره بقوته وعزته لا رب سواه، وقال غيره: ومن لم يؤمر بقتال فهو غالب بالحجة.
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)} نفت هذه الآية أن يوجد من يؤمن بالله تعالى حق الإيمان ويلتزم شعبه على الكمال يواد كافراً أو منافقاً. ومعنى يواد: يكون بينهما من اللطف بحيث يود كل واحد منهما صاحبه، وعلى هذا التأويل قال بعض الصحابة: اللهم لا تجعل لمشرك قبلي يداً فتكون سبباً للمودة فإنك تقول وتلا هذه الآية، وتحتمل الآية أن يريد بها لا يوجد من يؤمن بالله والبعث يواد {من حاد الله} من حيث هو محاد لأنه حينئذ يود المحادة، وذلك يوجب أن لا يكون مؤمناً. ويروى أن هذه الآية نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة ومخاطبته أهل مكة، وظاهر هذه الآيات، أنها متصلة المعنى، وأن هذا في معنى الذم للمنافقين الموالين لليهود، وإذا قلنا إنها في أمر حاطب جاء ذلك أجنبياً في أمر المنافقين، وإن كان شبيهاً به، والإخوان هنا إخوة النسب، كما عرف الإخوة أنه في النسب، وقد يكون مستعملاً في إيخاء الود، و{كتب في قلوبهم الإيمان} معناه: أثبته. وخلقه بالإيجاد، وذهب أبو علي الفارسي وغيره من المعتزلة، إلى أن المعنى جعل في قلوبهم علامات تعرف الملائكة بها أنهم مؤمنون، وذلك لأنهم يرون العبد يخلق إيمانه، وقد صرح النقاش بهذا المذهب، وما أراه إلا قاله غير محصل لما قال. وأما أبو علي فعن بصيرته، وقرأ جمهور القراء «كَتَب» على بناء الفعل للفاعل، «والإيمان» بالنصب، وقرأ أبو حيوة وعاصم في رواية المفضل عنه «كُتِبَ» على بناء الفعل للمفعول، و«الإيمانُ» بالرفع، وقوله {أولئك} إشارة إلى المؤمنين الذين يقتضيهم معنى الآية، لأن المعنى لكنك تجدهم لا يوادون من حاد الله، وقوله تعالى: {بروح منه} معناه: بهدى ولطف ونور وتوفيق إلهي ينقدح من القرآن، وكلام النبي عليه السلام، وقيل: المعنى بالقرآن لأنه روح، قيل: المعنى بجبريل عليه السلام، والحزب الطريق الذي يجمعه مذهب واحد، والمفلح: الفائز ببغيته، وباقي الآية بين.
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)} قد تقدم القول في تسبيح الجمادات التي يتناولها عموم ما في السماوات والأرض وأن أهل العلم اختلفوا في ذلك. فقال قوم: ذلك على الحقيقة، وقال آخرون: ذلك مجاز أي آثار الصنعة فيها والإيجاد لها كالتسبيح وداعية إلى التسبيح ممن له أن يسبح، قال مكي {سبح} معناه: صلى وسجد فهذا كله بمعنى الخضوع والطوع، و{العزيز الحكيم} صفتان مناسبتان لما يأتي بعد من قصة العدو الذي أخرجهم من ديارهم، و{الذين كفروا من أهل الكتاب} هم بنو النضير، وكانت قبيلة عظيمة من بني إسرائيل موازية في القدر والمنزلة لبني قريظة، وكان يقال للقبيلتين الكاهنان، لأنهما من ولد الكاهن بن هارون، وكانت أرضهم وحصونهم قريبة من المدينة، ولهم نخل وأموال عظيمة، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد خرج إلى بني النضير فحاصرهم وأجلاهم على أن يحملوا من أموالهم ما أقلته إبلهم حاشى الحلقة وهي جميع السلاح، فخرجوا إلى بلاد مختلفة فذلك قوله تعالى: {هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر}. وقوله تعالى: {لأول الحشر} اختلف الناس في معنى ذلك بعد اتفاقهم على أن {الحشر}: الجمع والتوجيه إلى ناحية ما. فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: أراد حشر القيامة أي هذا أوله، والقيام من القبور آخره، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «امضوا هذا أول الحشر وإنا على الأثر». وقال عكرمة والزهري وغيرهما: المعنى {لأول} موضع {الحشر} وهو الشام، وذلك أن أكثر بني النضير جاءت إلى الشام، وقد روي أن حشر القيامة هو إلى بلد الشام وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني النضير «اخرجوا»، قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى أرض المحشر»، وقال قوم في كتاب المهدوي: المراد {الحشر} في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج، فهذا الذي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير أوله، والذي فعل عمر بن الخطاب بأهل خيبر آخره، وأخبرت الآية بمغيب وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بجلاء أهل خيبر، ويحتمل أن يكون آخر الحشر في قول النبي عليه السلام في مرضه: «لا يبقين دينان في جزيرة العرب»، فإن ذلك يتضمن إجلاء بقاياهم قال الخليل في ما حكى الزجاج: سميت جزيرة لأنه أحاط بها بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات، وفي هذه الإحاطة نظر. وقوله تعالى: {ما ظننتم أن يخرجوا} معناه: لمنعتهم وكثرة عددهم، فلم تكن آمالكم وظنونكم تنتهي إلى أنهم يخرجون ويدعون أموالهم لكم، وبحسب ذلك من المنعة والعدد والتحصن ظنوا هم أن لن يقدر عليهم وقوله تعالى: {من الله} يريد: من جند الله حزب الله وقوله تعالى: {فأتاهم الله} عبارة عن إظهاره تعالى المسلمين عليهم وإلقائهم في حيز الهزم والذل. وقرأ الجمهور: «الرعْب» بسكون العين، وقرأ أبو جعفر وشيبة، بضم العين، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: {يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين}، فقال الضحاك والزجاج وغيره: كلما هدم المسلمون من حصنهم في القتال هدموا هم من البيوت وخربوا الحصون دأباً فهذا معنى تخريبهم. وقال الزهراوي وغيره كانوا لما أبيح لهم ما تستقل به الإبل لا يدعون خشبة حسنة ولا نجافاً ولا سارية إلا قلعوه وخربوا البيوت عنه، وقوله تعالى: {وأيدي المؤمنين} من حيث فعلهم، وكفرهم داعية إلى تخريب المؤمنين بيوتهم، فكأنهم قد خربوها هم بأيدي المؤمنين. وقال جماعة من المفسرين: إنهم لما أزمعوا الجلاء شحوا على ترك البيوت سليمة للمؤمنين فهدموا وخربوا لمعنى الإفساد على من يأتي. قال قتادة: خرب المؤمنون من خارج ليدخلوا وخربوهم من داخل. وقرأ جمهور القراء: «يخْرِبون» بسكون الخاء وتخفيف الراء. وقرأ أبو عمرو وحده والحسن بخلاف عنه وقتادة وعيسى بفتح الخاء وشد الراء. فقال فريق من العلماء اللغويين القراءتان بمعنى واحد وقال أبو عمرو بن العلاء: خرب، معناه: هدم وأفسد وأخرب معناه ترك الموضع خراباً وذهب عنه، ثم نبه تعالى المؤمنين وغيرهم ممن له أن ينظر على نصرة رسوله وصنعه له فيمن حاده وناوأه بقوله تعالى: {فاعتبروا يا أولي الأبصار} أي العيون والأفهام.
{وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)} أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه كتب على بني إسرائيل جلاء، وكانت بنو النضير ممن حل بالحجاز بعد موت موسى عليه السلام بيسير، لأنهم كانوا من الجيش الذي رجع وقد عصوا في أن لم يقتلوا الغلام ابن ملك العماليق لجماله وعقله، وقد كان موسى عليه السلام قال لهم لا تستحيوا أحداً، فلما رجع ذلك الجيش إلى بني إسرائيل بالشام وجدوا موسى ميتاً، وقال لهم بنو إسرائيل أنتم عصاة والله لا دخلتم علينا بلادنا، فقال أهل ذلك الجيش عند ذلك ليس لنا أحب من البلاد التي غلبنا أهلها، فانصرفوا إلى الحجاز، فكانوا فيه فلم يجر عليهم الجلاء الذي أجراه بختنصر على أهل الشام، وقد كان الله تعالى كتب في الأزل على بني إسرائيل جلاء فنالهم هذا {الجلاء} على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك {لعذبهم} الله {في الدنيا} بالسيف والقتل كأهل بدر وغيرهم. ويقال: جلا الرجل وأجلاه غيره، وقد يقال: أجلى الرجل نفسه بمعنى جلا، والمشاقة كون الإنسان في شق ومخالفه في شق، وقوله: {ما قطعتم من لينة} سببها أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وضعوا أيديهم في نخل بني النضير يقطعون ويحرقون، فقال بنو النضير: ما هذا الإفساد يا محمد وأنت تنهى عن الفساد فكف عن ذلك بعض الصحابة وذلك في صدر الحرب معهم، فنزلت الآية معلمة أن جميع ما جرى من قطع أو إمساك {فبإذن الله}، وردت الآية على قول بني النضير، إن محمداً ينهى عن الفساد وها هو ذا يفسد فأعلم الله تعالى أن ذلك بإذنه {ليخزي به الفاسقين} من بني النضير، واختلف الناس في اللينة، فقال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون: اللينة النخلة اسمان بمعنى واحد وجمعها لين وليان، قال الشاعر [امرؤ القيس]: [المتقارب] وسالفة كسحوق الليان *** أضرم فيها الغوي السعر وقال الآخر [ذو الرمة]: طراق الخوافي واقع فوق لينة *** ندى ليله في ريشه يترقرق وقال ابن عباس وجماعة من اللغويين: اللينة من النخل ما لم يكن عجوة. وقال سفيان بن سعيد الثوري: اللينة الكريمة من النخل، وقال أبو عبيدة فيما روي عنه وسفيان: اللينة: ما تمرها لون وهو نوع من التمر، يقال له اللون، قال سفيان، هو شديد الصفرة يشف عن نواة من التمر فيرى من خارج وأصلها لونة فأبدلت لموافقة الكسرة، وقال أيضاً أبو عبيدة اللين: ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني. وقرأ ابن مسعود والأعمش: «أو تركتموها قوماء على أصولها»، وقوله تعالى: {وما أفاء الله على رسوله منهم} الآية. إعلام إنما أخذ لبني النضير ومن فدك فهو خاص للنبي صلى الله عليه وسلم وليس على حكم الغنيمة التي يوجف عليها ويقاتل فيها بل على حكم خمس الغنائم، وذلك أن بني النضير لم يوجف عليها، ولا قوتلت كبير قتال، فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قوت عياله وقسم سائرها في المهاجرين، ولم يعط منها الأنصار شيئاً، غير أن أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف شكيا عظيمة فأعطاهما، هذا قول جماعة من العلماء، وفي ذلك قول عمر بن الخطاب: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله عليه مما لم يوجف عليه المسلمون ب {خيل ولا ركاب} فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي منها جعله في السلاح والكراع عدة في سبيل الله. قال بعض العلماء: وكذلك كل ما فتح على الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة والوجيف: دون التضريب، يقال وجف الفرس وأوجفه الراكب والإيجاف: سرعة السير والاجتهاد فيه.
{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)} {أهل القرى} المذكورون في هذه الآية هم أهل الصفراء والينبوع ووادي القرى، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عربية، وحكمها مخالف لبني النضير، ولم يحبس من هذه رسول الله صلى الله عليه سولم لنفسه شيئاً بل أمضاها لغيره، وذلك أنها في ذلك الوقت فتحت، واختلف الناس في صفة فتحها فقيل: عن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعث بعثاً إلى كل مكان فطاع وأعطاه أهله فكان مما لم يوجف عليه، وكان حكمه حكم خمس الغنائم، وليس في الآية نسخ على هذا التأويل، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع ذلك للمهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً. وقال قتادة وزيد بن رومان: كانت هذه القرى قد أوجف عليها، ولكن هذا حكم ما يوجف عليه، ثم نسخ الله تعالى هذا الحكم بآية الأنفال فجعل فيها الخمس لهذه الأصناف وبقيت الأربعة الأخماس للمقاتلة، وآية هذه السورة لم يكن فيها للمقاتلة شيء، وهذا القول يضعف، لأن آية الأنفال نزلت إثر بدر وقبل بني النضير وقبل أمر هذه القرى بسنة ونيف. و{القربى} في هذه الآية قرابة النبي صلى الله عليه وسلم منعوا الصدقة وعوضوا من الفيء. وقوله تعالى: {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم} مخاطبة للأنصار لأنه لم يكن في المهاجرين في ذلك الوقت غني، وقرأ جمهور الناس «يكون» بالياء، وقرأ أبو جعفر وابن مسعود وهشام عن ابن عامر: بالتاء وهي كان التامة. وقرأ جمهور الناس: «دُولةً» بضم الدال ونصب الهاء. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: «دَولةً» بفتح الدال ونصب الهاء. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وهشام عن ابن عامر: «دُولةٌ» بضم الدال والهاء. وقال عيسى بن عمر هما بمعنى واحد. وقال الكسائي وحذاق النظرة الفتح في المُلك: بضم الميم لأنها الفعلة في الدهر والضم في المِلك بكسر الميم. والمعنى أنها كالعواري فيتداول ذلك المال الأغنياء بتصرفاتهم ويبقى المساكين بلا شيء ولا حظ في شيء من هذه الأموال ليتيم غني ولا لابن سبيل حاضر المال، وقد مضى القول في الغنائم في سورة الأنفال، وروي: أن قوماً من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة وقالوا: لنا منها سهمنا فنزل قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} الآية، مؤدباً في ذلك وزاجراً ثم اطرد بعد معنى الآية في أوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه حتى قال قوم إن الخمر محرمة في كتاب الله بهذه الآية، وانتزع منها ابن مسعود: لعنة الواشمة والمستوشمة الحديث. وراى محرماً في ثيابه المخيطة. فقال له: اطرح هذا عنك، فقال له الرجل: أتقرأ علي بذلك آية من كتاب الله تعالى فقال ابن مسعود: نعم، وتلا هذه الآية، وقوله تعالى: {للفقراء المهاجرين} بيان لقوله: {والمساكين وابن السبيل} فكرر لام الجر لما كانت الأولى مجرورة باللام ليبين أن البدل إنما هو منها، ثم وصفهم تعالى بالصفة التي تقتضي فقرهم وتوجب الإشفاق عليهم وهي إخراجهم من ديارهم وأموالهم، وجميع المهاجرين إما أخرجهم الكفار وإما أحوال الكفار وظهورهم، وفرض الهجرة في ذلك الوقت، ووصفهم بالفقر وإن كان لهم بعض أحوال وهي حال للفقر في اللغة، وقد مضى بيان هذا في سورة الكهف. وقوله {يبتغون} في موضع الحال، و«الفضل والرضوان» يراد به الآخرة والجنة، و«نصر الله» تعالى هو نصر شرعه ونبيه، و{الصادقون} في هذه الآية يجمع صدق اللسان وصدق الأفعال، لأن أفعالهم في أمر هجرتهم إنما كانت وفق أقوالهم.
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} {الذين تبوءوا} هم الأنصار، والضمير في {قبلهم} للمهاجرين، و{الدار} هي المدينة، والمعنى: تبوءوا الدار مع الإيمان معاً، وبهذا الاقتران يصح معنى قوله: {من قبلهم} فتأمله، {والإيمان} لا يتبوأ لأنه ليس مكاناً ولكن هذا من بليغ الكلام ويتخرج على وجوه كلها جميل حسن. وأثنى الله تعالى في هذه الآية على الأنصار بأنهم {يحبون} المهاجرين، وبأنهم {يؤثرون على أنفسهم} وبأنهم قد وقوا شح أنفسهم لأن مقتضى قوله: {ومن يوق شح نفسه} الآية. أن هؤلاء الممدوحين قد وقوا الشح، والحاجة: الحسد في هذا الموضع، قاله الحسن وتعم بعد جميع الوجوه التي هي بخلاف ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في إعطاء المهاجرين أموال بني النضير والقرى، و{أوتوا} معناه: أعطوا، والضمير المرفوع بأن لم يسم فاعله هو للمهاجرين، وقوله تعالى: {ويؤثرون} الآية، صفة للأنصار. وقد روي من غير ما طريق، أنها نزلت بسبب رجل من الأنصار، قال أبو المتوكل: هو ثابت بن قيس، وقال أبي هريرة في كتاب مكي: كنية هذا الرجل أبو طلحة، وخلط المهدوي في ذكر هذا الرجل ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: والله ما عندنا إلا قوت الصبية، فقال: نومي صبيتك وأطفئي السراج وقدمي ما عندك للضيف ونوهمه نحن أنا نأكل، ففعلا ذلك فلما غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عجب الله من فعلكما البارحة»، ونزلت الآية في ذلك، والإيثار على النفس أكرم خلق، وقال حذيفة العدوي: طلبت يوم اليرموك ابن عم لي في الجرحى ومعي شيء من ماء، فوجدته، فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فإذا رجل يصيح آه، فأشار ابن عمي أن انطلق إليه فجئته فإذا هو هشام بن العاصي، فقلت: اشرب فإذا آخر يقول: آه، فأشار هشام أن انطلق إليه، فجئته، فإذا به قد فاضت نفسه، فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات، فعجبت من إيثارهم رحمهم الله وقال أبو زيد البسطامي: قدم علينا شاب من بلخ حاجاً فقال: ما حد الزهد عندكم؟ فقلت: إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا، فقال: هكذا عندنا كلاب بلخ، فقلت له: فما هو عندكم، فقال: إذا فقدنا صبرنا وإذا وجدنا آثرنا وروي: أن سبب هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم هذه القرى في المهاجرين قال للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه» فقالوا: بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة، فنزلت هذه الآية. والخصاصة: الفاقة والحاجة، وهو مأخوذ من خصائص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح فكأن حال الفقير هي كذلك يتخللها النقص والاحتياج، و«شح النفس» هو كثرة منعها وضبطها على المال والرغبة فيه وامتداد الأمل هذا جماع شح النفس وهو داعية كل خلق سوء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدى الزكاة المفروضة وقرى الضيف وأعطى في النائبة فقد برئ من الشح»، واختلف الناس بعد هذا الذي قلنا، فذهب الجمهور والعارفون بالكلام إلى هذا وعلى هذا التأويل، كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يطوف ويقول: اللهم قني شح نفسي، لا يزيد على ذلك، فقيل له في ذلك فقال إذا وقيته لم أفعل سوءاً. قال القاضي أبو محمد: «شح النفس» فقر لا يذهبه غنى المال بل يزيده وينصب به، وقال ابن زيد وابن جبير وجماعة: من لم يأخذ شيئاً نهاه الله تعالى عنه ولم يمنع الزكاة المفروضة فقد برئ من شح النفس. وقال ابن مسعود رحمه الله «شح النفس»: هو أكل مال الغير بالباطل، وأما منع الإنسان ماله فهو بخل وهو قبيح، ولكنه ليس بالشح. وقرأ عبد الله بن عمر: «شِح» بكسر السين، ويوقى وزنه: يفعل من وقى يقي مثل وزن يزن. وقرأ أبو حيوة: «يوَقّ» بفتح الواو وشد القاف و{المفلحون}: الفائزون ببغيتهم. واختلف الناس في قوله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم} فقال الفراء: أراد الفرقة الثالثة من الصحابة وهي من آمن أو كبر في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال جمهور العلماء: أراد من يجيء من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة، فوصف الله تعالى القول الذي ينبغي أن يلتزمه كل من لم يكن من الصدر الأول وإعراب {الذين} رفع عطفاً على {هم} أو على {الذين} أو رفع بالابتداء. وقوله تعالى: {يقولون} حال فيها الفائدة والمراد: والذين جاؤوا قائلون كذا أو يكون يقولون صفة، ولهذه الآية قال مالك وغيره: إنه من كان له في أحد من الصحابة قول سوء أو بغض فلا حظ له في الغنيمة أدباً له، وجاء عراقيون إلى علي بن الحسين فسبوا أبا بكر وعمر وعثمان فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ فقالوا: لا، أفمن {الذين تبوءوا الدار والإيمان}؟ قالوا: لا، قال فقد تبرأتم من هذين الفريقين، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى فيهم: {والذين جاؤوا من بعدهم} الآية. قوموا فعل الله بكم وفعل، وقال الحسن أدركت ثلاثمائة من الصحابة منهم سبعون بدرياً كلهم يحدثني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. فالجماعة أن لا تسبوا الصحابة ولا تماروا في دين الله ولا تكفروا أحداً من أهل التوحيد بذنب». والغل: الحقد والاعتقاد الرديء، وقرأ الأعمش: «في قلوبنا غمراً للذين» والغمر: الحقد، وقد تقدم الاختلاف في قراءة {رؤوف}.
|